المياه الراكدة
لـ كرم محمد حربي
كانت الساعة تقترب من **الرابعة والنصف عصرًا**. الهدوء يسري في أروقة المكان، دون أن يسلك إلى عقله طريقًا. كان الهدوء ظاهريًا في كل شيء، إلا **عقله الشارد** خلف جوانب الذكريات، مُعلَّقًا على حبالها المرتخية.
رآه جالسًا على تلك الأريكة على ضفاف كورنيش النيل، يلقي بنظرته إلى مياه النيل التي تحركها الرياح في شكل أمواج صغيرة. تباطأت خطاه حين اقترب منه، ثم مد يده ممسكًا بكتفه برفق وألقى عليه التحية، وجلس جواره دون أن يرد عليه بأي حرف. أدار وجهه إلى ما كان عليه للحظات.
وبعد لحظات، بدأ حديثه وقال:
"نسمات العصاري هذه ما أجملها حين تلامس الوجه، وكأنها تنفث في الأرواح حياة جديدة. وكأنها حين تلامس وجهي، تسقط عنه **تجاعيد الليالي والأيام**. تراها حين تلامس مياه النيل، تسري بها البهجة تجعلها تتراقص في توالٍ، ترتفع برفق وتجري حتى تحضن الشاطئ، وكأنه طفل صغير يرتمي بين أحضان أبيه وأمه، ثم يتلاشى."
ثم أدار وجهه إليه قائلًا:
"ما هذا الصمت المطبق؟ ما لي أراك هكذا شاردًا وكأنك تحمل جبال الأرض فوق ظهرك؟ أخبرني ما حالك هذا؟"
مد يده لأسفل ثم أمسك حجرًا صغيرًا ورفع يده لأعلى، ثم ألقاه في المياه. وزفر زفرة هادئة، تشعرك بأن الروح تخرج قطعة قطعة فيها! ثم قال:
"ها أنا كما قلت، كلما جرى النسيم على وجهي لتتراقص أمواج قلبي فرحًا، سقطت فوق قلب أمواجي الراقصة **حجرة فعكَّر صفوها وكدَّر راحتها**."
ردُّ العابر
مدَّ يده هو الآخر إلى حجرة صغيرة من الأرض وأمسكها، ثم ألقاها هو الآخر في النيل، مُصيبًا قلب الدوائر الصغيرة التي أحدثتها حجرته التي ألقاها من قبل. ثم قال له وهو يمسك بكتفه:
"قد تكون تلك الحجرة التي أُلقيت من عابر سبيل، ليوقظك من أحلام لا تتحقق أو لتتضح رؤياك إلى سراب قد أعشى عينك. المشكلة يا صديقي ليست في الحجر نفسه ولا فيمن ألقاه، المشكلة في تلك **الدوائر** التي يصنعها حوله فور سقوطه. فإذا كانت حياتنا مُعلَّقة بآثار يصنعها الآخرون دون قصدٍ أو عن عمد، فإننا لن نستطيع النهوض أو القيام مرة أخرى. إن الأشجار الشامخة تتمايل حين تهب الرياح العاتية لتقف بعدها شامخة مرة أخرى."
"ليست حجارة يا صديقي يمكن رفعها بأصابعنا، إنها **مشاعر تُخترق**، لتفتح للصدمات بابًا يحرق ويكوي. أو ربما هي **غيوم تتراكم** فوق بعضها البعض، وتحجب ما فينا عما فينا."
"دعها يا صديقي ولا تكتمها. دع الغيوم تجري لمستقر لها، فلن تختفي غيومك إلا حين تسقط ما فيها."
فأمال رأسه لأسفل ناظرًا بين قدميه، ثم رفعه إلى السماء مُغمضًا وكأنها تعتصر السنين والأيام.
فما كان من صديقه الوافد إلا الصمت، وهو لم يكن متأكدًا حين غادر مجلس صديقه أنه كان يبكي، أو كانت مجرد دمعة واحدة فقط هي التي سقطت. ولكنه أدرك أن **الحجر** الذي قاطع الدوائر الصغيرة قد أيقظ فيه ما كان يرجوه، وأن **حاجز الصمت** قد سقط، وانقشع الضباب وترك شعاعًا من الضوء يمر إليه.
تابع المزيد من قصص كرم محمد حربي على مدونة الزهراء الأدبية.