ندوب لا تراها العيون قصة قصيرة للكاتب كرم محمد حربي

ندوب لا تراها العيون

قصة قصيرة

بقلم: كرم محمد حربي

فتاة تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، وحين ابتسم الدهر لها على حين غرة من سنواتها العجاف، طرق بابها رجل طيب السمعة، كريم الحسب والنسب.

لم تكن الفتاة مثل بعض فتيات اليوم، تعلم كيف ترفض أو تتدلل. لم تكن تعصي أمرًا لأبيها، ولا ترفض له طلبًا. أما أبوها، ذلك الشيخ الذي قارب عمره الستين عامًا، فكان رجلًا طيبًا رقيق القلب، رفيقًا لها وليس أبًا فقط. لقد رباها على أخلاق حميدة اندثرت في مجتمعنا مع اندثار الكثير من مثيلاتها.

"ما أتى به إلى بابنا هو سيرتك الطيبة وأخلاقك العالية والتزامك يا بنيتي. وأنا قد جئت الآن أعرض عليك طلبه، ولن أفرض عليك رأيًا اليوم أو غدًا. ولكني، وبعد أن توفيت أمك قبل عامين، أخاف عليك الحياة من بعدي وحيدة، ضعيفة مكسورة الجناح في سجن الحياة المنيع. سأنتظر ردك بعد يومين، فكري بهدوء ثم اتخذي قرارك."

جلست مريم تناجي ربها وتستخير فيما أتاها. هي لا تعلم شيئًا عن الاختيار، وليست - كما يقال في أيامنا - "مدللة". هي فتاة طيبة ذات سكينة ووقار، إلا أنها لا تريد لحياتها عيش التعساء في الدنيا. تريد رغد الدنيا وجنان الآخرة، تريد رجلًا يجلب لها السرور دنيا، ويعينها على طاعة الله دينًا. وما سمعته من أخبار عن مصطفى كان كل ما تستطيع أن تطلبه من صفات في شريك حياتها. رأت في نفسها القبول، فقررت الموافقة.

واتفق الوالد على تفاصيل العقد وميعاده، وتزوجت مريم بمصطفى. وعاشوا حياة طيبة في أول عام لهم، ولم يسمع شيء عنهم طوال عام منقضٍ. لكن لمريم رأي آخر.

لقد كان طيبًا في المعاملة إلا في شيئين: حين أسأله زيارة أبي، وحين نأوي إلى الفراش في خلوتنا. كان كمثل وحش يفترس فريسته، ينهش في جسدي كما ينهش الذئب ضحيته. وحين أبدي أي غضب، يزيد من فظاعته وأسلوبه. ثم في الصباح يأتيني ليرضيني ببعض الكلمات التي لا تكاد تصل مسامعي، وينصرف إلى عمله.

"لقد كان سيء الأخلاق داخل بيته، حسن السيرة بين الناس. لقد كان فظًا غليظ القلب في معاملتي، لينًا بين الناس. لقد عاهد على أن تكون عيشة بالمعروف أو تسريح بإحسان، ولكن لم يصن عهده يومًا."

وحين تمنعت عنه، زاد من تعذيبي. حتى في بعض الأيام، كنت أسقط مغشية علي في غرفتي، ولم يشفع لي ذلك. فكان يسقط علي كما يسقط النسر بمخالبه ليقطع فريسته وينثرها. قررت الانفصال، فطلبت ذلك منه مرات ومرات، وما كان منه إلا أن ازداد في عنفوانه وقبحه الداخلي بيني وبينه، أما سيرته بين الناس فكما هي.

عاد الوالد إلى البيت وأخبرني ما تم. فحمدت الله على الفراق بيني وبين مصطفى. مصيبة واحدة خير من مصائب عديدة.

ومضى الوقت يومًا بعد يوم، وأنا في منزل والدي لا أخرج، حتى انقضت العدة.

خرجت بعد فترة إلى السوق لأشتري بعض لوازم البيت من مأكل، وكانت نظرات النساء في قريتنا لا ترحمني. وكنت أسمع منهن تلميحات بالكلام عني، لم أنتبه لتفاصيله، وكنت أتغاضى عنه وأسير عائدة إلى بيتي.

"إني قد سمعت كثيرًا من النساء تتحدث عنك! فلم أستطع أن أتمالك نفسي، ورحت أرد عنك ما قد ألَقَوْا بك به ظلمًا وعدوانًا! ولكنهم لم يسكتوا، وراح الجميع حولي يتهامسون بينهم! يتهمونك بما ليس فيك يا ابنتي! ويصفونه بما يصفونه دائمًا! لقد قلبوا الأمور وبدلوها! فأصبح الطيب خبيثًا، والخبيث طيبًا!"

قالت مريم: "يا أبي، إن الناس لا تحكم إلا بما تسمع، ولا تقول إلا ما ترى، إضافة إلى بعض الناس ممن يزيدون الحديث تشويقًا بإضافاتهم، وكأنهم يحسنون صنعًا!"

"دعك من أحاديثهم! سيرد الله ظلمهم، ويجبر خاطرنا وضعفنا. فليس لنا من نصير إلا هو."

#قصة_قصيرة #أدب_عربي #كرم_محمد_حربي #ندوب_لا_تراها_العيون #قصص_اجتماعية #أدب_نسوي #قضايا_مجتمعية #مدونة_الزهراء_الأدبية

جميع الحقوق محفوظة © مدونة الزهراء الأدبية 2024

كرم حربي

خلف هذه السطور ارواحا تحن الى أرواحٍ فارقت أجسادهم الحياة، وخلف معانيها ترسم اللوحات والصور

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

أحدث أقدم

نموذج الاتصال