أبواب البريد في الصحف.. ونظرة عن قرب لآلام الآخرين
بقلم: كرم محمد حربي
نظرة على معاناة المجتمع من حولنا
من فوائد أبواب البريد في الصحف أنها تتيح لنا فرصة الاطلاع على آلام الآخرين وعذاباتهم، فنكتشف أحياناً أن ما نعانيه هو من تفاهات الحياة بالقياس إلى آلامها ومشاكلها الأخرى.
"أصدقاء على الورق - عبد الوهاب مطاوع"
وأنا أقول: لا داعي لقراءة الصحف والمجلات لتشعر بآلام الآخرين ومعاناتهم، ترى في عيون الناس اليوم همومهم، كلما مررت على أفران الخبز وفي الأسواق، وحتى في المجمعات الاستهلاكية والمحلات التجارية.
مشاهد يومية تعكس المعاناة
حين تذهب إلى محطات القطار، ومواقف الاتوبيسات، في محطات المترو، في وجوه المارين في الشارع من حولك، الواقفون في انتظار أدوارهم على أبواب البريد لصرف الإعانات الاجتماعية والمعاشات، وذلك جانب هين بعض الشيء.
أما الجانب الآخر فيحتاج منك لجُهد قليل، وبعض الوقت حتى تذهب إلى تلك الأماكن لترى بعينك وتشعر بوجدانك بما في عيون الآخرين وقلوبهم.
المستشفيات الحكومية: مرايا الألم
اذهب إلى أي مستشفى حكومي وانظر في وجوه المرضى وذويهم ترى الآلام المنبعثة كما تنبعث الحرارة من لهيب النار. أشجار كانت مورقة ومزهرة ويانعة فأصابها الداء فاصفرت وتساقطت أوراقها وذبلت أزهارها، ولم يعد يربطها بالحياة سوى هذا الجذع الممتد تحت الأرض، ضعف عودها وانحنى.
هنا في انتظار ذويهم يفترشون الليل بأجسادهم يسكنون أرصفة الشوارع، يكفيهم الانتظار مرارة، فيتجرعون مرارة أخرى في العراء وقسوة أخرى من الذين يستغلون حاجة الناس ويكوون قلوبهم وأرواحهم بالغلاء والاستغلال.
مراكز علاج الإدمان: مأساة الشباب
هنا في هذا المركز الخاص لعلاج الإدمان، انظر إلى وجوه هؤلاء الشباب، الذين لم يبق من شبابهم غير الأعوام المسجلة في بطاقة تعريفهم، شاخت وجوههم وكهلت أجسادهم ووهنت عقولهم وضعفوا واستكانوا، أذلهم الهوى وأذلوا أنفسهم باتباع سبيل الغي حتى قضى عليهم بلاء الإدمان، فأصبحوا لا يرى في وجوههم إلا الألم والضعف.
كم من شاب أصيب بهذا البلاء فتحول من نشاط إلى خمول إلى ضمور. وكم وكم ولا تدري هل يزول الهم والغم أم تزول أجسادهم وأرواحهم يوماً بعد يوم.
رحلة للعظة والحكمة
تعال معي لنذهب في رحلة للنفس فيها عظة وللروح منها حكمة، وللعقل فيها تدبراً، لعلنا نرى فضل الله علينا ونعمائه التي لا تحصى ولا تعد.
هنا معهد الأورام، وما أدراك ما معهد الأورام، آلام مستمرة، وأوجاع لا تتوقف، ودموع من القلب منبعها، هناك قلوب ملأها الحزن وكسرتها الحاجة وقلة الحيلة.
هنا معهد القلب، هنا الأطفال والكبار، على حافة الموت، بين غياهب الوجع ولهيب القرار، لا حيلة لك في شيء سوى أن تتوكل وتسير إلى ما لا تعرف عنه إلا سبيلاً إلى شعاع يبرق بأمل بعيد.
هذا الأب الذي مازال لم يبدأ بعد بناء أول لبنة في أسرته، يحمل أول مولود له ويتنقل بين مستشفى إلى مستشفى ينتظر دوره ليدخل ابنه إلى جراحة قلب ومن بعدها جراحة قلب أخرى، ولا يملك من الحياة إلا قليلاً. اللهم صبراً يليق بعظمتك، وعوناً منك يا رحمن.
مستشفيات الصحة النفسية: قيمة العقل
وعلى هذا المنوال، وهذه الطريقة، في كل مستشفى حكومي لا تختار مرضاها انتقاء حسب حالتهم المرضية والمادية، تجد الآلام تنبعث كما تنبعث من الشمس حرارتها في ظهيرة الصيف.
وهناك في مستشفيات الصحة النفسية، تعلم مقدار العقل وقيمته حقاً، فما الذي جعل هذا الرجل برغم فصاحة لسانه وجزالة أسلوبه ورجاحة عقله من قبل، قد أصبح هكذا دون فكر وعقل وحتى دون وجهة يولي نفسه إليها، لا يدري عن نفسه شيئاً.
كيف تحول هذا إلى ذاك، وكيف انقلب الحال من رأس إلى عقب هكذا، ما الذي يستحق في هذه الدنيا من صراعات وجدالات أن يفقد الإنسان منا عقله بلا رجعة، في سبيل ماذا يضغط إنسان على إنسان حتى يصل به إلى الجنون.
الخلاصة: لا للعزلة، نعم للمواجهة
هل رأيت يا صديقي أن الشعور بآلام الآخرين لا يحتاج سوى الذهاب إلى هنا وهناك، أو السير على قدميك في طريق مزدحم، أو الوقوف في محطة قطار أو أمام مستشفى، أو دار مسنين، أو مكتب بريد أو غيره من الأماكن العادية التي يتردد عليها الجمهور يومياً.
ولا مانع يا سيدي من إرجاع أبواب البريد في الصحف وقراءتها مرة أخرى، ففيها جانب آخر لا يقل أهمية عما تحدثت عنه، بل ربما يكون أحد أهم الأسباب الأولية لحدوث أغلب الأمراض، والدخول في مستنقع الإدمان أو ذهاب العقل وضياعه.
مرة أخرى تفقد أحوال من تهتم لأمرهم كل فترة، ولا تعزل نفسك عن مجتمع تعيش فيه، ولا تنطو وحيداً، فبرغم مساوئ الحياة الاجتماعية وسلبياتها المنتشرة والواضحة عياناً بياناً، فالمواجهة هي السبيل الأفضل دوماً، وليس هناك حل في الهروب بعيداً.